فصل: من فوائد البيضاوي في الآيات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد البيضاوي في الآيات:

قال رحمه الله:
{وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ كُلًا هَدَيْنَا} أي كلا منهما. {وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ} من قبل إبراهيم، عد هداه نعمة على إبراهيم من حيث إنه أبوه وشرف الوالد يتعدى إلى الولد. {وَمِن ذُرّيَّتِهِ} الضمير لإبراهيم عليه الصلاة والسلام إذ الكلام فيه. وقيل لنوح عليه السلام لأنه أقرب ولأن يونس ولوطًا ليسا من ذرية إبراهيم، فلو كان لإبراهيم اختص البيان بالمعدودين في تلك الآية والتي بعدها والمذكورون في الآية الثالثة عطف على نوحًا. {دَاوُودُ وسليمان وَأَيُّوبَ} أيوب بن أموص من أسباط عيص بن إسحاق. {وَيُوسُفَ وموسى وهارون وَكَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين} أي ونجزي المسحنين جزاء مثل ما جزينا إبراهيم برفع درجاته وكثر أولاده والنبوة فيهم.
{وَزَكَرِيَّا ويحيى وعيسى} هو ابن مريم وفي ذكره دليل على أن الذرية تتناول أولاد البنت. {وَإِلْيَاسَ} قيل هو إدريس جد نوح فيكون البيان مخصوصًا بمن في الآية الأولى. وقيل هو من أسباط هارون أخي موسى. {كُلٌّ مّنَ الصالحين} الكاملين في الصلاح وهو الإِتيان بما ينبغي والتحرز عما لا ينبغي.
{وإسماعيل واليسع} هو الليسع بن أخطوب. وقرأ حمزة والكسائي {والليسع} وعلى القراءتين هو علم أعجمي أدخل عليه اللام كما أدخل على اليزيد في قوله:
رَأَيْتُ الوَلِيْدَ بن اليزيد مُبَارَكا ** شَدِيدًا بِأَعْبَاءِ الخِلاَفَةِ كَاهِلُهُ

{وَيُونُسَ} هو يونس بن متى. {وَلُوطًا} هو ابن هاران أخي إبراهيم. {وَكُلًا فَضَّلْنَا عَلَى العالمين} بالنبوة، وفيه دليل على فضلهم على من عداهم من الخلق.
{وَمِنْ ءابَائِهِمْ وذرياتهم وإخوانهم} عطف على {كَلاَّ} أو {نُوحًا} أي فضلنا كلًا منهم، أو هدينا هؤلاء وبعض آبائهم وذرياتهم وإخوانهم فإن منهم من لم يكن نبيًا ولا مهديًا. {واجتبيناهم} عطف على {فَضَّلْنَا} أو {هَدَيْنَا}. {وهديناهم إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} تكرير لبيان ما هدوا إليه.
{ذلك هُدَى الله} إشارة إلى ما دانوا به. {يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} دليل على أنه متفضل عليهم بالهداية. {وَلَوْ أَشْرَكُواْ} أي ولو أشرك هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع فضلهم وعلو شأنهم. {لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} لكانوا كغيرهم في حبوط أعمالهم بسقوط ثوابها.
{أولئك الذين ءاتيناهم الكتاب} يريد به الجنس. {والحكم} الحكمة أو فصل الأمر على ما يقتضيه الحق. {والنبوة} والرسالة. {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا} أي بهذه الثلاثة. {هَؤُلاء} يعني قريشًا. {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا} أي بمراعاتها. {قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بكافرين} وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام المذكورون ومتابعوهم. وقيل هم الأنصار أو أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أو كل من آمن به أو الفرس. وقيل الملائكة.
{أُوْلَئِكَ الذين هَدَى الله} يريد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام المتقدم ذكرهم. {فَبِهُدَاهُمُ اقتده} فاختص طريقهم بالاقتداء والمراد بهداهم ما توافقوا عليه من التوحيد وأصول الدين دون الفروع المختلف فيها، فإنها ليست هدى مضافًا إلى الكل ولا يمكن التأسي بهم جميعًا. فليس فيه دليل على أنه عليه الصلاة والسلام متعبد بشرع من قبله، والهاء في {اقتده} للوقف ومن أثبتها في الدرج ساكنة كابن كثير ونافع وأبي عمرو وعاصم أجرى الوصل مجرى الوقف، ويحذف الهاء في الوصل خاصة حمزة والكسائي وأشبعها بالكسر ابن عامر برواية ابن ذكوان على أنها كناية المصدر وكسرها بغير إشباع برواية هشام. {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} أي على التبليغ أو القرآن. {أَجْرًا} جعلًا من جهتكم كما لم يسأل من قبلي من النبيين، وهذا من جملة ما أمر بالاقتداء بهم فيه. {إِنْ هُوَ} أي التبليغ أو القرآن أو الغرض. {إِلاَّ ذكرى للعالمين} إلا تذكيرًا وموعظة لهم. اهـ.

.من فوائد الشوكاني في الآيات:

قال رحمه الله:
قوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ} معطوف على جملة {وتلك حجتنا} عطف جملة فعلية على جملة اسمية.
وقيل: معطوف على {آتيناها} والأوّل أولى.
والمعنى: ووهبنا له ذلك جزاء له على الاحتجاج في الدين وبذل النفس فيه، و{كُلًا هَدَيْنَا} انتصاب {كلًا} على أنه مفعول لما بعده مقدّم عليه للقصر، أي كل واحد منهما هديناه، وكذلك نوحًا منصوب بهدينا الثاني، أو بفعل مضمر يفسره ما بعده {وَمِن ذُرّيَّتِهِ} أي من ذرية إبراهيم، وقال الفراء: من ذرية نوح.
واختاره ابن جرير الطبري، والقشيري، وابن عطية، واختار الأوّل الزجاج، واعترض عليه بأنه عدّ من هذه الذرية يونس ولوطًا، وما كان من ذرية إبراهيم، فإن لوطًا هو ابن أخي إبراهيم، وانتصب {دَاوُودُ وسليمان} بفعل مضمر، أي وهدينا من ذرية داود وسليمان، وكذلك ما بعدها، وإنما عدّ الله سبحانه هداية هؤلاء الأنبياء من النعم التي عدّدها على إبراهيم، لأن شرف الأبناء متصل بالآباء.
ومعنى {من قبل} في قوله: {وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ} أي من قبل إبراهيم، والإشارة بقوله: {وكذلك} إلى مصدر الفعل المتأخر، أي ومثل ذلك الجزاء {نَجْزِى المحسنين}.
{وَإِلْيَاسَ} قال الضحاك: هو من ولد إسماعيل، وقال القتيبي: هو من سبط يوشع ابن نون، وقرأ الأعرج والحسن، وقتادة {وَإِلْيَاسَ} بوصل الهمزة، وقرأ أهل الحرمين وأبو عمرو وعاصم {واليسع} مخففًا.
وقرأ الكوفيون إلا عاصمًا بلامين، وكذلك قرأ الكسائي، ورد القراءة الأولى، ولا وجه للردّ فهو اسم أعجمي، والعجمة لا تؤخذ بالقياس، بل تؤدي على حسب السماع، ولا يمتنع أن يكون في الاسم لغتان للعجم، أو تغيره العرب تغييرين.
قال المهدوي: من قرأ بلام واحدة فالاسم يسع والألف واللام مزيدتان، كما في قول الشاعر:
رأيت الوليد بن اليزيد مباركا ** شديدًا بأعباء الخلافة كاهله

ومن قرأ بلامين فالاسم ليسع، وقد توهم قوم أن اليسع هو إلياس وهو وهم، فإن الله أفرد كل واحد منهما، وقال وهب: اليسع صاحب إلياس، وكانوا قبل يحيى وعيسى وزكريا.
وقيل: إلياس هو إدريس، وهذا غير صحيح، لأن إدريس جدّ نوح وإلياس من ذريته.
وقيل: إلياس هو الخضر وقيل: لا بل اليسع هو الخضر {وَكُلًا فَضَّلْنَا عَلَى العالمين} أي كل واحد فضلناه بالنبوّة على عالمي زمانه، والجملة معترضة.
قوله: {وَمِنْ ءابَائِهِمْ وذرياتهم وإخوانهم} أي هدينا، ومن للتبعيض، أي هدينا بعض آبائهم وذرياتهم وأزواجهم {واجتبيناهم} معطوف على فضلنا.
والاجتباء: الاصطفاء أو التخليص أو الاختيار، مشتق من جبيت الماء في الحوض جمعته، فالاجتباء: ضم الذي تجتبيه إلى خاصتك.
قال الكسائي: جبيت الماء في الحوض جبًا مقصورة، والجابية الحوض، قال الشاعر:
كجابية الشيخ العراقي تفهق

والإشارة بقوله: {ذلك هُدَى الله} إلى الهداية والتفضيل والاجتباء المفهومة من الأفعال السابقة {يَهْدِى بِهِ} الله: {مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} وهم الذين وفقهم للخير واتباع الحق {وَلَوْ أَشْرَكُواْ} أي هؤلاء المذكورون بعبادة غير الله: {لَحَبِطَ عَنْهُمْ} من حسناتهم {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} والحبوط البطلان.
وقد تقدّم تحقيقه في البقرة.
والإشارة بقوله: {أولئك الذين ءاتيناهم الكتاب} إلى الأنبياء المذكورين سابقًا، أي جنس الكتاب، ليصدق على كل ما أنزل على هؤلاء المذكورين: {والحكم} العلم {والنبوة} الرسالة، أي ما هو أعمّ من ذلك {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء} الضمير في بها للحكم والنبوّة والكتاب، أو للنبوّة فقط، والإشارة بهؤلاء إلى كفار قريش المعاندين لرسول الله صلى الله عليه وسلم {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا} هذا جواب الشرط، أي ألزمنا بالإيمان بها قومًا {لَّيْسُواْ بِهَا بكافرين} وهم المهاجرون والأنصار أو الأنبياء المذكورون سابقًا، وهذا أولى لقوله فيما بعد: {أُوْلَئِكَ الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده} فإن الإشارة إلى الأنبياء المذكورين لا إلى المهاجرين والأنصار، إذ لا يصح أن يؤمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهداهم، وتقديم بهداهم على الفعل يفيد تخصيص هداهم بالاقتداء.
والاقتداء طلب موافقة الغير في فعله.
وقيل المعنى: اصبر كما صبروا.
وقيل: اقتد بهم في التوحيد، وإن كانت جزئيات الشرائع مختلفة، وفيها دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم مأمور بالاقتداء بمن قبله من الأنبياء فيما لم يرد عليه فيه نصّ.
قوله: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} أمره الله بأن يخبرهم بأنه لا يسألهم أجرًا على القرآن، وأن يقول لهم ما {هُوَ إِلاَّ ذكرى} يعني القرآن {للعالمين} أي موعظة وتذكير للخلق كافة، الموجودين عند نزوله، ومن سيوجد من بعد.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن محمد بن كعب قال: الخال والد والعم والد، نسب الله عيسى إلى أخواله فقال: {وَمِن ذُرّيَّتِهِ} حتى بلغ إلى قوله: {وَزَكَرِيَّا ويحيى وعيسى}.
وأخرج أبو الشيخ، والحاكم، والبيهقي عن عبد الملك بن عمير قال: دخل يحيى بن يعمر على الحجاج فذكر الحسين، فقال الحجاج: لم يكن من ذرية النبي، فقال يحيى: كذبت، فقال: لتأتيني على ما قلت ببينة، فتلا: {وَمِن ذُرّيَّتِهِ} إلى قوله: {وَعِيسَى} فأخبر الله أن عيسى من ذرية آدم بأمه، فقال: صدقت.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي حرب بن أبي الأسود قال: أرسل الحجاج إلى يحيى بن يعمر فقال: بلغني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية النبي تجده في كتاب الله؟ وقد قرأته من أوّله إلى آخره فلم أجده، فذكر يحيى بن يعمر نحو ما تقدم.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد في قوله: {واجتبيناهم} قال: أخلصناهم.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن زيد في قوله: {وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} قال: يريد هؤلاء الذين هديناهم وفعلنا بهم.
وأخرج أبو الشيخ، عن مجاهد قال: الحكم: اللب.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء} يعني أهل مكة.
يقول: إن يكفروا بالقرآن {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بكافرين} يعني أهل المدينة والأنصار.
وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله: {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا} قال: هم الأنبياء الثمانية عشر الذين قال الله فيهم {فَبِهُدَاهُمُ اقتده}.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن أبي رجاء العطاردي قال في الآية: هم الملائكة.
وأخرج البخاري، والنسائي وغيرهما، عن ابن عباس، في قوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقتده} قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهداهم وكان يسجد في ص، ولفظ ابن أبي حاتم عن مجاهد: سألت ابن عباس عن السجدة التي في ص، فقال هذه الآية، وقال: أمر نبيكم أن يقتدي بداود عليه السلام.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} قال: قل لهم يا محمد: لا أسألكم على ما أدعوكم إليه عرضًا من عروض الدنيا. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {فإنْ يَكْفُرْ بِهَا} هذه الهاء تعود على الثلاثة الأشياء، وهي: الكتاب والحكم والنبوة، وهو قول الزمخشري.
وقيل: يعود على {النبوة} فقط، لأنها أقرب مذكور، والباء في قوله: {لَيْسُوا بِهَا} مُتعَلِّقَةٌ بخير {ليس}، وقدم على عاملها، والباء في {بكافرين} زائدة توكيدًا. اهـ.

.تفسير الآية رقم (90):

قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان المراد بسوقهم هكذا- والله أعلم- أن كلًا منهم بادر بعد الهداية إلى الدعاء إلى الله والغيرة على جلاله من الإشراك، لم يُشْغِل أحدًا منهم عن ذلك سراء ولا ضراء بملك ولا غيره من ملك أو غيره بل لازموا الهدى الدعاء إليه على كل حال؛ قال مستأنفًا لتكرار أمداحهم بما يحمل على التحلي بأوصافهم، مؤكدًا لإثبات الرسالة: {أولئك} أي العالو المراتب {الذين هدى الله} أي الملك الحائز لرتب الكمال، الهدى الكامل، ولذلك سبب عن مدحهم قوله: {فبهداهم} أي خاصة في واجبات الإرسال وغيرها {اقتده} وأشار بهاء السكت التي هي أمارة الوقوف- وهي ثابتة في جميع المصاحف- إلى أن الاقتداء بهم كان غير محتاج إلى شيء؛ ثم فسر الهدى بمعظم أسبابه فقال: {قل} أي لمن تدعوهم كما كانوا يقولون مما ينفي التهمة ويمحص النصيحة فيوجب الاتباع إلا من شقى {لا أسئلكم} أي أيها المدعوون {عليه} أي على الدعاء {أجرًا} فإن الدواعي تتوفر بسبب ذلك على الإقبال إلى الداعي والاستجابة للمرشد؛ ثم استأنف قوله: {إن} أي ما {هو} أي هذا الدعاء الذي أدعوكم به {إلا ذكرى} أي تذكير بليغ من كل ما يحتاج إليه في المعاش والمعاد {للعالمين} أي الجن والإنس والملائكة دائمًا، لا ينقضي دعاؤه ولا ينقطع نداؤه، وفي التعبير بالاقتداء إيماء إلى تبكيت كفار العرب حيث اقتدوا بمن لا يصلح للقدوة من آبائهم، وتركوا من يجب الاقتداء به. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

لا شبهة في أن قوله: {أُوْلَئِكَ الذين هَدَى الله} هم الذين تقدم ذكرهم من الأنبياء، ولا شك في أن قوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقتده} أمر لمحمد عليه الصلاة والسلام، وإنما الكلام في تعيين الشيء الذي أمر الله محمدًا أن يقتدي فيه بهم، فمن الناس من قال: المراد أنه يقتدي بهم في الأمر الذي أجمعوا عليه، وهو القول بالتوحيد والتنزيه عن كل ما لا يليق به في الذات والصفات والأفعال وسائر العقليات، وقال آخرون: المراد الاقتداء بهم في جميع الأخلاق الحميدة والصفات الرفيعة الكاملة من الصبر على أذى السفهاء والعفو عنهم، وقال آخرون: المراد الاقتداء بهم في شرائعهم إلا ما خصه الدليل، وبهذا التقدير كانت هذه الآية دليلًا على أن شرع من قبلنا يلزمنا، وقال آخرون: إنه تعالى إنما ذكر الأنبياء في الآية المتقدمة ليبين أنهم كانوا محترزين عن الشرك مجاهدين بإبطاله بدليل أنه ختم الآية بقوله: {وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88] ثم أكد إصرارهم على التوحيد وإنكارهم للشرك بقوله: {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بكافرين}.
ثم قال في هذه الآية: {أُوْلَئِكَ الذين هَدَى الله} أي هداهم إلى إبطال الشرك وإثبات التوحيد {فَبِهُدَاهُمُ اقتده} أي اقتد بهم في نفي الشرك وإثبات التوحيد وتحمل سفاهات الجهال في هذا الباب.
وقال آخرون: اللفظ مطلق فهو محمول على الكل إلا ما خصه الدليل المنفصل.
قال القاضي: يبعد حمل هذه الآية على أمر الرسول بمتابعة الأنبياء عليهم السلام المتقدمين في شرائعهم لوجوه: أحدها: أن شرائعهم مختلفة متناقضة فلا يصح مع تناقضها أن يكون مأمورًا بالاقتداء بهم في تلك الأحكام المتناقضة.
وثانيها: أن الهدى عبارة عن الدليل دون نفس العمل.
وإذا ثبت هذا فنقول: دليل ثبات شرعهم كان مخصوصًا بتلك الأوقات لا في غير تلك الأوقات.
فكان الاقتداء بهم في ذلك الهدى هو أن يعلم وجوب تلك الأفعال في تلك الأوقات فقط، وكيف يستدل بذلك على اتباعهم في شرائعهم في كل الأوقات؟ وثالثها: أن كونه عليه الصلاة والسلام متبعًا لهم في شرائعهم يوجب أن يكون منصبه أقل من منصبهم وذلك باطل بالإجماع، فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حمل هذه الآية على وجوب الاقتداء بهم في شرائعهم.
والجواب عن الأول: أن قوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقتده} يتناول الكل.
فأما ما ذكرتم من كون بعض الأحكام متناقضة بحسب شرائعهم.
فنقول: ذلك العام يجب تخصيصه في هذه الصورة فيبقى فيما عداها حجة.
وعن الثاني: أنه عليه الصلاة والسلام لو كان مأمورًا بأن يستدل بالدليل الذي استدل به الأنبياء المتقدمون لم يكن ذلك متابعة، لأن المسلمين لما استدلوا بحدوث العالم على وجود الصانع لا يقال: إنهم متبعون لليهود والنصارى في هذا الباب، وذلك لأن المستدل بالدليل يكون أصيلًا في ذلك الحكم، ولا تعلق له بمن قبله ألبتة، والاقتداء والاتباع لا يحصل إلا إذا كان فعل الأول سببًا لوجوب الفعل على الثاني، وبهذا التقرير يسقط السؤال.
وعن الثالث: أنه تعالى أمر الرسول بالاقتداء بجميعهم في جميع الصفات الحميدة والأخلاق الشريفة، وذلك لا يوجب كونه أقل مرتبة منهم، بل يوجب كونه أعلى مرتبة من الكل على ما سيجيء تقريره بعد ذلك إن شاء الله تعالى، فثبت بما ذكرنا دلالة هذه الآية على أن شرع من قبلنا يلزمنا. اهـ.
قال الفخر:
احتج العلماء بهذه الآية على أن رسولنا صلى الله عليه وسلم أفضل من جميع الأنبياء عليهم السلام، وتقريره: هو أنا بينا أن خصال الكمال، وصفات الشرف كانت مفرقة فيهم بأجمعهم، فداود وسليمان كانا من أصحاب الشكر على النعمة، وأيوب كان من أصحاب الصبر على البلاء ويوسف كان مستجمعًا لهاتين الحالتين.
وموسى عليه السلام كان صاحب الشريعة القوية القاهرة والمعجزات الظاهرة، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وإلياس، كانوا أصحاب الزهد، وإسماعيل كان صاحب الصدق، ويونس صاحب التضرع، فثبت إنه تعالى إنما ذكر كل واحد من هؤلاء الأنبياء لأن الغالب عليه كان خصلة معينة من خصال المدح والشرف، ثم أنه تعالى لما ذكر الكل أمر محمدًا عليه الصلاة والسلام بأن يقتدي بهم بأسرهم، فكان التقدير كأنه تعالى أمر محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يجمع من خصال العبودية والطاعة كل الصفات التي كانت مفرقة فيهم بأجمعهم ولما أمره الله تعالى بذلك، امتنع أن يقال: إنه قصر في تحصيلها، فثبت أنه حصلها، ومتى كان الأمر كذلك، ثبت أنه اجتمع فيه من خصال الخير ما كان متفرقًا فيهم بإسرهم، ومتى كان الأمر كذلك، وجب أن يقال: إنه أفضل منهم بكليتهم. والله أعلم. اهـ.